القصر المنهوب
الإثنين 11 مارس ,2019 الساعة: 02:55 مساءً

«المهدي» عبد الله بن «المتوكل» أحمد، هو آخر الأئمة «القاسميين» الأقوياء، تولى الإمامة صبيحة يوم الخميس «18 شوال 1231هـ / 13 سبتمبر 1815م»، في مُخالفةٍ صريحة لوصية والده المتوفى، الذي كان قد أوصى لأخيه القاسم، الأصغر منه بثلاث سنوات، ارتدى السواد حداداً، وتوجه مُنتصف الأسبوع التالي إلى الروضة، وأقام هناك احتفالاً كبيراً، وزع فيه الأعطيات بسخاء، وتسابق هو وأخوه ـ المُوصى له ـ على الخيل، وكأن شيئاً لم يحدث.


وقف العلامة الشوكاني إلى جانبه، وامتدحه بقوله: «كان راجح العقل، شريف الأخلاق، محمود الخصال»، فيما قال عنه الشجني: «كان لا يعرف مُنذ نشأ إلا السيف والسنان، ولا يأنس إلا إلى الضرب والطعان»، ووصفه الكبسي بأنَّه «آخر ملوك الصولة والإقدام، والحل والإبرام»، وخلَّد يحيى بن المطهر أخباره في كتاب أسماه: «العبر الهندي في سيرة الإمام المهدي».


وفي المُقابل قال عنه الكبسي: «كان فتاكاً لا يبالي بالعواقب»، وهو ذات التوصيف الذي نقله العرشي، بإضافة: ذكره ميلان ذات الإمام «إلى الفجور، وشرب الخمور، مع تعظيمه للشريعة، ومُقاتلته من ناوئها»، فيما اتهمه المؤرخ الواسعي بـ «الاحتجاب، والميل إلى الشهوات واللذات، وسماع اللهو، والتغافل عن الملك».


وبين هذا وذاك، كان «المهدي» عبدالله مُتقلب المزاج، مُضطرب العاطفة، سريع التصرف، قوي الانفعال، اشتغل بتولية الوزراء، وعزلهم، ومصادرة أموالهم، حتى اختل أمر الدولة، وأصبح همُّ المسؤولين تحقيق مصالحهم، وعزل من دونهم، ليصل السلب والنهب إلى القاعدة الشعبية، بطرق رسمية مُتعارفة، وهي حقائق أكدها أيضاً الجراح الانجليزي روبرت فينلي، الذي زار صنعاء بعد سبع سنوات من تولي ذات الإمام الإمامة، واصفاً ملامحه الجسمانية بـ «أنَّه رجل طويل القامة، نحيل، ذو بشرة داكنة تشبه تقريباً البشرة الأفريقية».


كانت الثلاث السنوات الأولى من حكم «المهدي» عبدالله حافلة بالتمردات القبلية الصادمة، خرجت في البدء قبيلة «حاشد» عن طاعته، فأرسل بعد ثلاثة أشهر من توليه الإمامة بحملة عسكرية إليها، ثم عززها بحملة أخرى قادها بنفسه، سيطر على «الجنات، وريدة، وحمدة»، وهدم كثيراً من الحصون، وأخذ رهائن الطاعة، وزج بعدد من المشايخ في السجون، ولم يفرج عنهم إلا بعد وساطات مُكثفة من قبل أعيان القبائل المُجاورة.


بعد «47» يوماً من عودة «المهدي» عبدالله من «حاشد»، بلغه أنَّ أعمامه «قاسم، وإسماعيل، ويحي، ومحمد، وزيد»، وجده طالب بن «المهدي» عباس يقدحون في سيرته «5 رجب 1232هـ»، فما كان منه إلا أن زج بهم في سجونه، بعد أن صادر بعضاً من أموالهم، ليأمر في منتصف الشهر التالي بالإفراج عنهم، بالتزامن مع تمرد قبيلة أرحب.


قام أكثر من «1,600» مقاتل أرحبي بمحاصرة صنعاء، مُعاضدة للطامح «العلوي» علي بن ناجي الجوفي، تصدت القوات الإمامية لهم، وأجبرتهم على العودة إلى ديارهم، فيما راسل «المهدي» عبدالله قبائل «خولان، ونهم، وهمدان»، طالباً نصرتهم، فتجمع له أكثر من «5,000» مُقاتل، منهم من ظل معه استعداداً لهجومه المُرتقب، ومنهم من توجه إلى أطراف أرحب لمنع اتصالها بالقبائل المجاورة.


أدرك «الأرحبيون» حينها أن لا قدرة لديهم على المواجهة، فسارعوا بالمناداة بالمصالحة، رفض «المهدي» عبدالله مطلبهم وبشدة، فما كان منهم إلا أن أعلنوا «نكفهم» العام، استجابت لهم قبائل «برط، ويام»، فيما وقفت بعض القبائل على الحياد، قاد «إمام صنعاء» قواته المُعززة بالمدافع بنفسه، دارت على تخوم أرحب عدة مواجهات، ولعدة أيام، انتهت بانتهاء شهر «شعبان»، خسر «الأرحبيون» في معركتهم الأخيرة حوالي «180» قتيلاً، مقابل «18» من القوات الإمامية.


كانت تهامة همَّ «المهدي» عبدالله الشاغل، قرر تجهيز حملة عسكرية لاستعادتها، واستدعى لأجل ذلك قبائل برط، ما أن وصل الأخيرون إليه، حتى غالوا في شروطهم، وطالبوه بالكثير من الأموال، وامتدت أيديهم لنهب مُمتلكات السكان، فما كان منه إلا أن حصرهم داخل الأسوار، ووجه بعدم مغادرتهم المدينة.


سارع أحد كبرائهم - ويدعى النقيب علي بن عبدالله الشايف - بكتابة رسالة قاسية إليه، أغضبته كثيراً، فاستدعاه وباقي المشايخ للتشاور «17 ربيع أول 1233هـ»، ثم وجه بحبسهم في قصر غمدان مُقيدين بالأغلال، وطلب في اليوم التالي من رعاياهم التوجه إلى تهامة، رفض الأخيرون أوامره، فأطلق عليهم عساكره، ونكلوا بهم شرَّ تنكيل.


وفي ذلك قال «صاحب الحوليات»: «وكان عليهم يوماً عبوساً، حلَّ بهم من البؤس، ولم يزل فيهم النهب والقتل إلى أن غابت الشمس، وأبواب المدينة مُغلقة»، نجح بعضهم في الهرب من فوق الأسوار، مُخلفين ورائهم أمتعتهم ومنهوباتهم، وعددا من القتلى، و«300» أسير، فأمر «إمام صنعاء» بإلحاقهم بكبرائهم.


التجأ من نجا منهم إلى «بوسان ـ أرحب»، فيما جراحات بعضهم غائرة، وهناك تلقاهم القاضي عبدالله بن حسن العنسي أحد أشهر كبرائهم، وبخهم بشدة، وخاطبهم قائلاً: «فلا بكيل بعد اليوم، قد ذهبت أيديكم وأرجلكم ورؤوسكم.. اذهبوا إلى نسائكم سود الله وجوهكم».


عاد «البرطيون» إلى قبيلتهم، و«أضرموا النيران بالنكف في المشارق، وفي جميع الجبال والشواهق، فأجابهم كل باغٍ وناعق»، حد توصيف «صاحب الحوليات»، فيما كثف «المهدي» عبدالله من استعداداته لملاقاتهم، واستدعى لأجل ذلك قبائل «نهم، وخولان»، ولإغاظتهم أكثر، أمر بضرب عنق النقيب علي الشايف، صلبه لثلاثة أيام، ثم وجه بدفنه في مكانٍ مليء بالقاذورات، استغل «البرطيون» ذلك في تحشيدهم المُضاد، فيما تولى النقيب حسين الشايف ـ شقيق الصريع ـ مهمة التسعير والمطالبة بالثأر، وقاد زحوفاتهم الجرارة صوب أبواب المدينة المنكوبة.


ذات مساء، تسلل «البرطيون» إلى ضاحية صنعاء الغربية «بير العزب»، المنطقة التي أهملت السلطات الإمامية تحصينها، أسرفوا بالنهب والقتل، فيما تفرَّد «صاحب الحوليات» في نقل جرائمهم المُريعة، ومن ضمن ما قاله: «فما أرحم صياح الهاربين إلى باب صنعاء، وهم من النوم صرعى، فمنهم الهارب بما يستر عورته، ومنهم من هو بعورته، ومنهم من ترك أمه وأبيه، ومنهم من لم ينج إلا بنفسه، وكم من هيفاء وثب عليها البدوان، وكم من عذراء افتضها أهل الطغيان، وكم من غيدٍ حسان فقدت في ذلك الأوان».


أفاق سكان مدينة صنعاء صبيحة اليوم التالي على هول الفاجعة، وأضحوا في تلك الأجواء المشحونة بالقلق والتوتر ينتظرون دورهم، خاصة بعد أن تبادر إلى مسامعهم قيام قبائل «نهم، وخولان» ـ المُكلفة بالدفاع عنهم ـ بالمشاركة في تلك الجرائم المُروعة، وصارت صنعاء وضواحيها تحت رحمة حاميها وحراميها.


نجا العلامة الشوكاني من مذبحة «بير العزب» بأعجوبة، فأرسل كبراء برط إليه يهنئونه بالسلامة، طالبين منه التدخل والتوسط عند «المهدي» عبدالله، وحث الأخير على الأفراج عن محابيسهم، وإعادة أموالهم ومنهوباتهم، مقابل إطلاقهم لأعيان الدولة المُحتجزين لديهم، وانسحابهم من أبواب المدينة المُحاصرة.


بعد «18» يوماً من الحصار، أذعن «إمام صنعاء» لشروطهم، لتتحقق مغادرتهم المؤقتة «3 رجب 1233هـ / 9 مايو 1818م»، وكان من ضمن ما أخذوه معهم أبواب قصر «بير العزب» الكبير، استعادها الإمام أحمد يحيى حميد الدين بعد «118» عاماً، وأعاد بعضها إلى مكانها الأصلي.


لم يطل غياب قبائل «بكيل» عن صنعاء كثيراً، فبعد عامين عاود رجالها غزواتهم المُعتادة، ولم يغادروا أبواب المدينة المنكوبة إلا بعد أن أعطاهم «المهدي» عبدالله الأموال الطائلة، قدرها أحد الرحالة الأجانب بـ «120,000» ريال فرنصي، وليتهم قنعوا بذلك؛ بل أعادوا الكرة على ذات المدينة ثلاث مرات خلال عام وبضعة أشهر، وعاودوا أيضاً غزواتهم الجنونية على «اليمن الأسفل».


شهدت «الدولة القاسمية» بعد ذلك نوعاً من الاستقرار النسبي، اهتم إمامها «المهدي» عبدالله بالبناء والتشييد، وتوجه مطلع «1237هـ» بحملة كبرى إلى «اليمن الأسفل»، تعزيزاً لحضور الدولة هناك، ومُحاربة لقبائل «بكيل» التي عاثت في تلك الجهة نهباً وخراباً.


حدثت في العام التالي في مضارب قبيلة «بكيل» مجاعة كُبرى، خرجوا بسببها خرجة رجل واحد، كبارهم وصغارهم ونساؤهم مُتشكلات بأشكال الرجال، وصلوا إلى مشارف صنعاء، نهبوا وقتلوا، وفي ذلك قال «صاحب الحوليات»: «فلما علم الإمام خبث نياتهم، وطلبوا من الغلبات التي لا يسعها المعقول، وما هم فيها، وإنما يريدون اليمن فأعرض عنهم، وكتب إلى جميع الجهات بالاحتراس منهم، فعزموا اليمن، وذلك بغيتهم، يجعلوها وطناً».


كانت تلك القبائل قد تآلفت أراضي إب الخصبة، في غزوات لها سابقة، إلا أنهم بعد هذا الاجتياح، استوطنوا، وتزوجوا، وتمشيخوا، ونسوا بلادهم، واستولوا على الحصون العالية، والأراضي الخصبة، وهو ما عُرف بالاستيطان «البكيلي» الثاني، وكانت تلك المناطق تحت أيديهم أشبه بدولة مستقلة.


قال «صاحب الحوليات» عن ذلك: «فلما وصلوا سمارة، وكل واحد طرح عربونه في محل وتقاسموه جميعاً، كأنه خلفه لهم أبوهم ميراثاً، ولما قد ضاق الخناق بالرعية في اليمن من العمال قد جاروا عليهم، وكود الرعوي يدفع حتى كأنه لم يمسك شيء، والجيد والبطل من أكل لقمة، فأذعنوا لبكيل وملكوه، ملكوه غصباً وقهراً».


توقفت بسبب ذلك الغزوات «البكيلية» على صنعاء ولمدة عشر سنوات، حتى أعلن أحمد بن علي السراجي نفسه إماماً «26 جماد الأولى 1247هـ»، مُتلقباً بـ «الهادي»، كان «جارودياً» مُتعصباً، تستر بحماية المذهب «الزيدي»، وناصرته قبائل «خولان، وأرحب، ونهم، وحاشد، وبكيل»، زحف بهم لمحاصرة صنعاء، إلا أن أصحابه تفرقوا بعد أن أغدق «المهدي» عبدالله على كبرائهم الأعطيات، عاد مرة أخرى إلى قرية «الغيضة ـ نهم» مُنطلق دعوته، ليحشد القبائل مرة أخرى، فدس له «إمام صنعاء» من قتله غيلة بضربة سيف «26 صفر 1248»، وقيل غير ذلك.


توجه «المهدي» عبدالله في ذات العام بحملة أخرى إلى «اليمن الأسفل»، استقر فيها لشهرين، أذعن خلالها «البكيليون» مؤقتاً لطاعته، إلا أنَّه لم ينصف الرعية من ظلمهم، وفي ذلك قال «صاحب الحوليات»: «فلما خرج من مدينة إب لحقه أهلها يعنفونه بالكلام، ويشتكون ويبكون، ويستغيثون من البغاة لما قد صدر منهم إليهم.. فلم يلتفت إليهم»، وظل الغزاة على طغيانهم حتى أتى الفقيه سعيد بن ياسين، وقاد ثورة عارمة هدَّت كيانهم، وأخرجتهم من حصون شوامخ، وجبال بواذخ.


توفي العلامة الشوكاني منتصف العام «1250هـ»، عن «76» عاماً، فدخلت «الدولة القاسمية» بوفاته ووفاة «المهدي» عبدالله «6 شعبان 1251هـ / 28 نوفمبر 1835م»، مرحلة الموت السريري؛ بل وعجزت عن حكم صنعاء نفسها، لتعود «الإمامة الزيدية» إلى وضعها المُعتاد، المليء بالخلافات الأسرية، والصراعات المناطقية، يتلقفها تارة أدعياء العلم والشرع والدين، وتارة أمراء طامحون من الأسر «العلوية» المُتنافسة.


وحين تولى في العام التالي الإمامة الفقيه المُتعصب، و«الجارودي» المُتطرف، «الناصر» عبدالله بن الحسن، حارب العلماء المُجددين، زج بهم في السجون، وحاول ـ ومعه حشد كبير من غلاة «الزيدية» ـ إخراج رفاة العلامة الشوكاني من القبر لحرقها، كونه بنظرهم المتهم الأول والرئيس بحرف الإمامة عن مسارها العنصري، وتعد تلك الحقبة بشهادة كثير من المؤرخين، مرحلة ودولة الإمام الشوكاني.


Create Account



Log In Your Account