الرقصة الأخيرة
الجمعة 19 يوليو ,2019 الساعة: 09:04 صباحاً

في غَمرة أحداث «صيف 1994م» المُلتهبة، وجدت القُوات الجنوبية نفسها فجأة أمام قيادة دخيلة، كانت حتى الأمس القريب مَنبُوذة، ومُتهمة بالعمالة والارتزاق، وأقصد بذلك عبدالرحمن الجفري - نائب علي سالم البيض - وأصحابه المدعومين والمَفروضين من قبل المملكة العربية السعودية، والذين عادوا ليحلوا محل «الحزب الاشتراكي» لا ليشاركوه الحكم، كانت أوامر هؤلاء - خاصة في عدن وشبوة - غير مُطاعة، لتتوالى تبعاً لذلك الهزائم، وفي المُحصلة النهائية لم يخسر هذا الفريق العائد شيئاً مُقارنة بخسارة الفريق المُقيم، والذي كان حتى الأمس القريب في الصدارة.


خاضت القُوات الجنوبية مَعركتها الخاسرة بلا قيادة مُوحدة، وبلا قضية، وبلا أهداف واضحة تستحق الموت من أجلها، وطد زعماءها «التقدميون» علاقتهم مع السعودية، وهي دولة «رجعية» لم تحترم يوماً حقوق الجوار، ومَعروفة بعدائها التاريخي لليمن واليمنيين، كانوا يتلقون أوامرهم من قادتها وقادة دولة الإمارات العربية المُتحدة، وحصلوا على أموال هائلة نظير تبعيتهم تلك، اهتزت صورتهم - بفعل ذلك - أمام قواتهم المُنظمة، واهتزت أكثر حين لم يصل الأخيرين من مَغانم ذلك الارتزاق سوى الفُتات.


في اليوم التالي لسقوط مدينة الحوطة «3 يونيو 1994م»، أعلن حيدر أبوبكر العطاس من إحدى قصور الضيافة في سلطنة عمان عن تشكيله حكومة جنوبية، حوت «30» وزيراً، كان «24» منهم مُقيمون في الخارج، تماماً كما هو الحال مع غالبية أعضاء «الجمعية الوطنية» - البرلمان المؤقت - الـ «111» التي تأسست من قبل، وتولى أنيس حسن يحيى رئاستها، لتبلغ تلك المهزلة السياسية بعد مرور عشرة أيام ذروتها؛ أعلن «البيض» عن تشكيله مجلس لـ «الدفاع الوطني» برئاسته، وكان مُعظم أعضاءه الـ «11» مُقيمون - أيضاً - في الخارج!!


عاشت القيادة الانفصالية - تبعاً لذلك - أسوأ أيامها، ولإنقاذ موقفها المُتشظي، وبعد يوم واحد من تشكيل حكومة «العطاس»، التقى في مدينة أبها وزراء خارجية دول «مجلس التعاون الخليجي»، ناقشوا في اجتماعهم كيفية الاعتراف بالدولة الجديدة، وبعد أخذ ورد ومشاورات عديدة، تحفظت قطر، فيما طالبت سلطنة عُمان الجميع بالتأني، فكان ما أرادت الأخيرة.


ميدانياً، لم تكن المَعارك حول مدينة عدن سهلة كما كان مُتوقع، استماتت بعض الفصائل الجنوبية بالدفاع عنها، وكبدت قوات صنعاء خسائر كثيرة في البشر والعتاد، ففي قرية «الشقعة» - مثلاً - سقط زهاء «120» قتيل، وأقل منهم في قرية «أم عليبة»، وأكثر من «200» قتيل في مدينة صبر، شهدت الأخيرة حرب شوارع دامية، وهي من أخرت حسم المعركة لأكثر من «20» يوماً.


كما كان للطيران الحربي دوراً فاعلاً في تأخر تقدم قوات صنعاء، ومُعظم خسائر هذا الفريق سقطت بِفعل ضرباته المُكثفة، بلغت عدد طلعاته نحو «3017» طلعة، وعنه قال عبدالولي الشميري: «الطيران التابع للحزب الاشتراكي كان هو الأكثر تأثيراً ومُناورة على قوات الوحدة، خاصة عندما كان الاشتراكيون لا يملكون مساحة يسيطرون عليها غير المدينة - يقصد عدن - فقط، التي يشكل المطار بمدرجاته نصف مساحتها، ومع ذلك لا يكاد يتوقف قصف الطيران..».


والمُواجهات حول مدينة عدن على أوجها، زادت حوادث النهب والسلب، وعن ذلك قال «الشميري»: «وقد توحش المواطنون وبعض الجنود في نهب مُمتلكات بعضهم بعضا، واغتنام الأسلحة والذخائر من المُعسكرات، وزادت عصابات النهب وجمع الغنائم والسرقات وتجار الخردة والنحاس لاغتنام مُخلفات المعركة»، لترتفع وتيرة تلك الحوادث المُشينة أكثر بعد سقوط تلك المدينة المنكوبة.


وفي الجانب الآخر، توغلت قوات صنعاء في الأراضي الحضرمية عبر محورين، الصحراء والساحل، فما كان من «البيض» إلا أن قال مُستهجناً: «إنَّ حضرموت التي صمدت في وجه حملة المُتوكل في القرن السابع عشر الميلادي، وردتها على أعقابها، ستقف أمام قوات عصابة آل الأحمر..»، ناسياً أنَّ «المُتوكل» إسماعيل حكم حضرموت لـ «23» عاماً، دخلتها قواته بعد أن استنجد به «الكثيريون» ضد أبناء عمومة لهم، وخرجت منها بعد أن استنجد الأخيرون بقبائل يافع، التي بدورها دعمتهم بـ «6,000» مُقاتل، ثم أقصتهم، وحكمت غالبية تلك البلاد لقرون.


دبلوماسياً، وصل الأخضر الإبراهيمي إلى اليمن «9 يونيو 1994م»، وذلك بعد سبعة أيام من تعيينه مَبعوثاً للأمين العام لـ «الأمم المُتحدة» بطرس غالي، ظلت مُهمته بين صنعاء والمكلا وست عواصم عربية تراوح مَكانها، وصرح حينها قائلاً: «من السذاجة الاعتقاد بوضع حد لهذه الأزمة في غضون أيام قليلة»، وما تأخيره في تقديم تقريره الوصفي حتى نهاية ذات الشهر إلا نتاج تعاطفه مع الوحدة، ولم تكن مهمته - حد توصيف بشير البكر - إلا من قبيل الإخراج الشكلي لانتصار شمالي مُنتظر.


كثر الحديث حينها في وسائل إعلام موالية للانفصاليين عن سقوط حوالي «500» لاجئي صومالي في محافظة أبين، وأنَّ على «الأمم المُتحدة» أن تقوم بواجبها في حماية هؤلاء النازحين، وإلزام الجانبين بوقف إطلاق النار، تبادل اليمنيون حينها عبارة ساخرة قيل أنَّ أحد الصوماليين المتضررين قالها، مفادها: «أحمر يضرب، أبيض يضرب، أسود يموت، أخضر يجي ويروح!!».


لم تلق دعوات وقف إطلاق النار أي استجابة، وكان دائماً نظام صنعاء ما يخترقها لأسباب واهية، مُحملاً الطرف الآخر وأطراف أخرى المَسؤولية، لتصل عدد خروقاته حتى مُنتصف «يونيو» إلى الخمسةِ خُروقات، ومن تلك الأعذار التي كان يلوكها عَرابو تلك السياسة تصريح لـ عبدالقادر باجمال - أحد القيادات الجنوبية الوحدوية - قال فيه أنَّ هناك جنوبيون أقصوا بعد أحداث «يناير 1986م»، وأنَّ حربهم ثأرية، وأنَّ هؤلاء قد يصرون على مواصلة الحرب حتى وإن أعلنت صنعاء عن إيقافها.


أصدر «مجلس الأمن» نهاية ذات الشهر قراره رقم «931»، وكان أخف لهجة من سابقه، ولم يخرج عنه إلا في حدود الحديث عن العمل على إيجاد آلية لمُراقبة وقف إطلاق النار، وخاطب أحد أعضاء المجلس «مندوب اليمن» قائلاً: «على قوات صنعاء الانسحاب من مشارف عدن»، وما هي إلا بضعة أيام حتى صارت الأنباء تتحدث عن سقوط ذات المدينة، فما كان من أعضاء المجلس إلا أن لاموا «المندوب» بلهجة شديدة، فرد عليهم: «عذراً يا سادة طلبتم منا سحبها؛ فسحبناها إلى الداخل!!».


عاش الانفصاليون الأسبوع الأخير من الحرب على وقع السباق بين الصمود وإمكانية الحصول على اعتراف دولي بدولتهم، زادت بعد صدور قرار مجلس الأمن خيبة أملهم، وزادت أكثر بعد تراجع الموقف المصري والكويتي عن مساندتهم، وبعد فشل اجتماع وزراء خارجية دول «إعلان دمشق» في الكويت في تحقيق ذلك الاعتراف «3 يوليو 1994م»، بدأوا يشعرون - كما أشار «البكر» - بالإعياء المادي والمعنوي، ويفقدون إمكانية الصمود إلى وقت طويل، فكان الانهيار المفاجئ لجبهة الساحل في حضرموت. 


سقطت مدينة المكلا في اليوم التالي، وما كان لها أن تسقط بتلك السرعة اللافتة لولا كسب قيادة صنعاء لثلاثة ألوية كانت مُكلفة بالدفاع عنها، أحدهما كان «لواء الوحدة» شمالي التكوين جنوبي الولاء، كما كان لمقتل صالح أبوبكر بن حسينون - قائد تلك الجبهة، ووزير النفط قبل الوحدة، وخلال الوحدة، وأثناء الانفصال - أثره البالغ في ذلك السقوط، والأخير من أنزه القيادات الجنوبية، وكان صادقاً في توجهه سلماً وحرباً، ونقل «البكر» عنه - بداية تلك المواجهات - قوله: «بعد ترتيب أوضاع الجنوب لا بد من إصلاح الوضع في الشمال؛ لنعود إلى بناء دولة مُوحدة على أسس حديثة بعيدة عن الولاءات القبلية والمذهبية».


غادر «البيض» بعد ظهر ذلك اليوم المُكلا إلى الشحر، وظل يُصدر أوامره بالقصف من برج الاتصالات الجوية، ليُكمل في اليوم التالي مَسيره صوب الحدود الشرقية، ولم يُغادر اليمن نهائياً إلا بعد أن وصله نباء سقوط مدينة عدن، استقر في سلطنة عُمان لأكثر من «14» عاماً، ليُعاود بعد ذلك الظهور بدعم من جمهورية إيران الإسلامية، رافعاً شعار «فك الارتباط»، وما هي إلا سنوات معدودة حتى خفت ذكره؛ وتلاشت طموحاته مع بروز قيادات جنوبية جديدة مدعومة ومَفروضة من قبل داعميه بالأمس، الذين انتهجوا - هذه المرة - سياسة «النفس الطويل»، وهي سياسة استحواذية مضمونها الانفصال - أو بمعنى أصح تقسيم الجنوب - بشكل مرحلي؛ كي لا يتحد فرقاء اليمن حول خيار الوحدة كما اتحدوا من قبل.


ومدينة عدن على وشك السقوط، ألقى «صالح» خطابا تَطمينياً لدول الجوار، قال فيه: «نحن نُقاتل اليوم من أجل الكرامة والسيادة والوجود والعقيدة، ولسنا خطر على أي قطر آخر، ولن نكون كذلك، فالوحدة اليمنية هي وحدة كل الخيِّرين في اليمن والوطن العربي من المحيط إلى الخليج».


لم يكن صباح يوم الخميس «7 يوليو 1994م» كأي الصباحات المُشرقة، كان مُلبداً بأدخنة البارود والغبار، أتمت قوات صنعاء في ساعاته الأولى سيطرتها النهائية على عدن، بعد أن اجتاحتها من خمسة محاور، وبعد أن غادرتها القيادات الانفصالية إلى جيبوتي، وكان «الجفري» قد أصدر قبل مُغادرته أوامره لمن تبقى من المُقاتلين بالكف عن القتال؛ وبرر ذلك بـ «الحفاظ على البقية الباقية من المدينة الصامدة والعظيمة»، وأضاف: «إن القضية لم تنته، وإن النضال سيستمر من أجل حياة حرة وكريمة لشعبنا في الجنوب بشكل خاص، وفي عموم اليمن بشكل عام، ومن أجل هزيمة عقلية الهيمنة والسيطرة والتخلف».


على الرغم من تواجد عبدربه منصور هادي وعلي محسن الأحمر في عدن بعد سقوطها، تَعرضت المدينة المنكوبة وعلى مدى أسبوع كامل لأعمال نهب وسلب شنيعة، واكتظ طريق «عدن - صنعاء» بالسيارات الذاهبة شمالاً وهي مُحملة بالغنائم، وعلق عمر الجاوي على ذلك المشهد المأساوي قائلاً: «لقد تحولنا إلى شعب من اللصوص»، تصدى الأخير بحزم لتلك الأعمال، وعمل وكل الخيرين على التخفيف من مُعاناة المواطنين الذين استبشر مُعظمهم بقدوم القوات الوحدوية خيراً، نقل معاناتهم إلى العالم، ووقف في وجه جحافل الفيد، وحين صرَّح «باجمال» بأن أعمال النهب قد توقفت، رد عليه «الجاوي» ساخراً: «لم يبق ما يُنهب!!».


تسببت حرب «صيف 1994م» بقتل ألاف من المواطنين والعسكريين على السواء، فيما تجاوزت خسارتها المادية الـ «10» مليار دولار، ولم يكن لـ «صالح» أن ينتصر فيها لولا ذلك الدعم المهول الذي حظي به من قبل «التجمع اليمني للإصلاح»، سياسياً وعسكرياً، صحيح أنَّ قادة ذلك الحزب كانوا يُدركون خطورة مُنطلقات «سيادة الرئيس» وسلبياته الكثيرة - الكلام هنا لأحدهم - إلا أنَّهم وقعوا بين فكي كماشة عُقدتهم المُتجددة التي يلخصها المثل الدارج «أعور ولا أعمى»، أو بالأصح «جني تعرفة، ولا إنسي ما تعرفوش!!»، ولأنهم يؤمنون بالأمثال أكثر من الأفعال؛ وجب تذكير قادتهم المُقيمين حالياً في فنادق الرياض بحكاية «أكلت يوم أكل الثور الأبيض!!».


والأسوأ من ذلك كله، تزييف عبدالله بن حسين الأحمر - أحد مؤسسي ذلك الحزب - لحقائق التاريخ؛ إرضاءً لجهات خارجية لم تُنكر دعمها لهذا الفريق أو ذاك، نفى «الأحمر» أثناء الحرب دعم الرياض للانفصاليين، وقال في مُذكراته أنها - أي السعودية - لم تكن ضد الوحدة، وأنها لو كانت كذلك لمنعتها في مهدها، والحقيقة التي جهلها «شيخ حاشد» أنَّ الوحدة تحققت بدعم من الرئيس العراقي صدام حسين كما سبق وأشرنا، رحلَّت المملكة حينها «800,000» مُغترب يمني، وما ذلك إلا جزء يسير من اعتراضها السافر على الوحدة اليمنية.


يُحسب لـ «صالح» إجادته اللعب بالأوراق، وحُسن دراسته كمُستبد فائق الذكاء لنفسيات خصومه، وكان دائماً ما يصف نفسه بـ «الراقص على رؤوس الثعابين»، استغل سذاجة شركائه القدماء والجدد، وكانوا بالفعل سنده البارز في تثبيت دعائم حُكمه الإقطاعي، بطرق مُباشرة وغير مباشرة، استفاد من تناقضاتهم، ومن تخوفاتهم، ومن طموحاتهم، ثم تخلص منهم الواحد تلو الآخر، ولم تكن حرب «صيف 1994م» العبثية سوى رقصة من رقصاته البارعة، والبارعة جداً.


وعلى النقيض من موقف «الإصلاح»، وقف «الإماميون» - أثناء تلك الحرب وقبلها - ضد «صالح»، وساندت القبائل المُوالية لهم القوات الجنوبية عسكرياً في عمران وحرف سفيان، وسياسياً ارتمى «حزب الحق» - والذي كان حسين بدر الدين الحوثي أحد أبرز قاداته - في أحضان الانفصاليين، تقوى أمرهم فيما بعد، وتخلصوا بدعم «سعودي - إيراني» من قادة حرب «صيف 1994م» المُنتصرين، حاول «صالح» من خلالهم أن ينتقم ممن ثاروا عليه، وأن يعيد انتصاراته وخطاباته القديمة، وحتى لحيته الخفيفة، إلا أنهم كانوا الأذكى، استفادوا منه أيما استفادة، وعلى وقع إيقاعاتهم المُتسارعة كانت نهايته، أو بمعنى أصح رقصته الأخيرة.


Create Account



Log In Your Account