حينما تعيد الحرب إنتاج  صِيَغ اخرى للهامش !!
الأحد 26 أبريل ,2020 الساعة: 12:09 صباحاً

بإستثناء  المستعمرة الانجليزية "عدن" وحوافها الجغرافية القريبة بقيت اليمن، منذ خرج العثمانيون منها غداة الحرب الكونية الاولي " 1918" ولأكثر من خمسة عقود،  هامشا قصيا بفعل عملية العزلة  التي فرضها نظام الحكم المتوكلي   بصيغته الامامية ، والذي تسلَّم حكم المناطق التي كان يديرها العثمانيون عدا مناطق المحميات ، التي وقَّعت مع الانجليز معاهدات حماية ، ولاحقاً استشاريات، اعاقت مساعي السلطة المتوكلية من فرض السيطرة عليها.

نقَل صور هذه العزلة الصلبة الباكرة كثيرٌ من الرحالة من بينهم  امين الريحاني  في كتابه "ملوك العرب " وعبد العزيز الثعالبي في " الرحلة اليمانية" و نزيه العظمة  في " رحلة في بلاد العربية السعيدة " واحمد فخري "اليمن ماضيها وحاضرها"  ومحمد حسن المحاويلي - عضو البعثة العسكرية العراقية -  "قلب اليمن"، و مصطفى الشكعة  في " مغامرات مصري في مجاهل اليمن"  ما تلى ذلك من رحلات وكتابات  لعرب ومستشرقين، وتقارير لبعثات طبية ، وصولا الى  الطبيبة الفرنسية "كلوديا فايان" ، التي وصلت الى اليمن عن طريق عدن مطلع الخمسينات  فنقلت وبريشة فنان كل مظاهر الحياة القاسية في البلد المعزول في كتابها  الشاهد "كنت طبيبة في اليمن"، والذي نقله الى العربية اول مرة السياسي اليمني المعتَّق "محسن العيني" اواخر الخمسينيات.

السلطة الجديدة بنزوعها الديني المتشدد ، والتي كانت تتباهي بإدارة اول دولة عربية  مستقلة، عمدت منذ ايامها الاولى الى تفكيك البنية الحديثة لنظام الادارة وحداثة الوسائل، على محدوديتها،  التي قام بها المحتلون العثمانيون في وجودهم الثاني في اليمن، مثل مدارس الصنائع ومكاتب التعليم  والمستشفيات والاسواق الحديثة، فحوِّلت المستشفى ،التي اديرت بطاقم فرنساوي منذ ستينيات القرن  التاسع عشر، الى قصر للإمام يحيى  ونقلت المشفى الى اصطبل للخيول، ومدرسة الصنائع تحولت الى مخزن للحبوب، والمكاتب المدرسية الى كتاتيب، اما الشارع الرئيس في المدينة القديمة ، الذي كان يربط الميدان بسوق الملح وكان يعرض بحوانيته الجميلة بعض التجار اليونانيون ،الذين جاؤوا الى صنعاء بعد حفر قناة السويس، سلع اوروبية راقية من الادخنة والمشروبات والمعلبات والملابس - كما يذهب الى ذلك الايطالي "رينزو مانزوني " في رحلته الى صنعاء اواخر ستينيات القرن التاسع عشر-  فسُدَّتِ بعض واجهات حوانيته  بالأحجار واكثرها تحولت الى مخازن وعرائش للبهائم .

وحينما وجدت هذه السلطة نفسها  تسبح عكس مجريات العصر حاولت التخفيف من العزلة السياسية ، التي وضعت البلاد تحت ضغطها، بتوقيع معاهدة مع الطليان منتصف العشرينات في ذروة التنازع مع حاكم عسير محمد الادريسي المدعوم من بريطانيا وحليفها  ابن سعود، واقامت علاقات ديبلوماسية باكرة مع دولة الاتحاد السوفيتي في العام 1928  ، قبل ان توقع " مكرهة" معاهدتين سياستين  مع ابن سعود شمالا ومع الانجليز جنوبا في العام 1934 ، بعد خسارة جيشها حربا  قصيرة مع الجارة ،واستعصاء تمددها جنوباً وسقوط ورقة مطالبتها بضم المحميات الى كيانها، حين غيرت الطائرات الانجليزية معادلة الحرب لصالح الدولة الاستعمارية ، التي لم تكن تغرب عنها شمس القوة.

وفي محاولة ثانية لكسر العزلة المعرفية ، ابتعثت مجموعة من الطلاب لدراسة الطيران في ايطاليا في 1926، وبعد عشرة اعوام ابتعثت مجموعة من الطلاب الى العراق للدراسات العسكرية بعد ان فضحت الحرب مع السعودية عتاقة الاساليب والمعدات العسكرية ، التي ورثتها سلطة الامامة من العثمانيين، لكنها لم تتح للبلاد الاستفادة من خبرات المبتعثين، حين قامت بتوزيعهم ككتبة في الدوائر الرسمية.

في اكتوبر 1926 قامت بإصدار اول اعداد صحفية  "الإيمان" ، مستفيدة من المطبعة المتهالكة التي ورثتها عن الاتراك، والتي كانت تستخدم لطباعة صحيفة "صنعاء" ذات الطابع الرسمي والبرتوكولي، لكن صحيفة الايمان التي كانت تصدر على رأس كل شهر هجري ، كُرِّست لمتابعة اخبار الامام وابنائه من السيوف،  وبعد اثنتي عشر سنة " في ديسمبر 1938  "  ستخرج من ذات المطبعة اول مجلة تبنتها وزارة المعارف في البلد المغلق والمعزول، هذه المجلة حملت اسم " الحكمة يمانية"، والتي عدها بعض الدارسين من مبذولات التنوير الباكرة، وقلت عنها "انها  كانت وسيلة من وسائل سلطة الامام يحيي، لاحتواء  الصوت الشاب "من الادباء والمثقفين المطالبين بالإصلاح" بإيجاد متنفس يمكن السيطرة عليه، وكان ظهور هذا الصوت معبِّرا عن حالة السخط الشديد، الذي تملك هذه الشريحة جراء انتكاسة مشروع الدولة ،وانغلاقها المميت فكانت ببساطتها وبدائيتها  اول مطبوع يصدر في عاصمة الامام يحيي، يفتح كوة صغيرة في جدار الانغلاق الصلب والمعتم" .

في عقد ونصف من الزمن لم يستطع الحاكم بأدواته تطويع المجتمع ، فبدأ صوت  يتشكل في عمق المجتمع، يمكن وسمه بصوت التنوير السياسي الباكر، والذي كان لديه ما يقوله خارج التقوُّل الرسمي، ومنه تيقنه  " ان الامام  يحيى قد احال مشروع الدولة الى اقطاعية خاصة به وبأبنائه، وبسبب عقليته التقليدية المحافظة ،وتشدده الديني وشحه الشديد، دمر كل شيء له علاقة  ببناء دولة مواطنة وخدمات.

فعملوا كل ما يستطيعون ،ليصل صوتهم الضعيف الى المجتمع المغلق.  وفي سبيل ذلك قدموا التضحيات الكبيرة، التي لم تقف عند حدود التسفيه و المطاردة، او تصل للاعتقال ،بل امتدت لتنتهي في حالات كثيرة الى حبال المشانق. غير ان فعلا مقاوما  مثل هذا، كان يفتح النافذة الاهم لدخول النور القليل لفعل التغيير."

في يوليو 1947، غادرت من عدن صوب لبنان اول بعثة تعليمية يمنية لأربعين طالبا "في سن المراهقة المبكرة تتراوح اعمارهم بين الثانية والخامسة عشرة" من مدن مملكة الامام  الرئيسية اختيروا بمقاييس  فرضها الامير عبد الله ابن الامام وزير المعارف وقتها ، لحسابات سياسية في اطار التنافس داخل بيت الحكم.

الاربعون طالبا الذين نقلوا الى بعض مدن مصر بعد عام واحد فقط من دراستهم في لبنان ،وما سيلتحق بهم من طلاب  مبتعثين من الشمال والجنوب ،وكذا مبتعثي الاندية  والاحزاب  والاسر في عدن ، سيشكلون اللحظة الفارقة  في التاريخ السياسي والثقافي اللاحق لليمن.

ففي القاهرة كان هؤلاء المبتعثون - كما يقول  كيفن روزر صاحب كتاب بعثة الاربعين -  "منجذبين سلفا الى النشاط السياسي، وفي هذه العملية، صاغوا علاقات سياسية قيمة مع حركات يمنية وعربية متعددة. وكانت رؤاهم عن التطور الاقتصادي، والعلاقات  الاجنبية، والتركيبة السياسية متكيفة مع نموذج الثورة المصرية ") ،التي دخلت بكل ثقلها في  معترك التحول في اليمن مع بزوغ ثورة سبتمبر، والتي كان فيها لطلاب البعثات في القاهرة  (عسكريين ومدنيين)، الاسهام المميز فيها ،من خلال وجودهم ككادر متعلم في دوائرها ومؤسساتها ،او تحولهم الى قادة سياسيين في الاحزاب "الدينية والقومية واليسارية" التي حضرت في مشهد التحول الجديد، بوصفها حواضن  للوعي السياسي، وروافعه  المنظمة. ومن هذه البعثات ،خرجت  اول مرة الحركة الطلابية اليمنية الموحدة ، التي ضمت ابناء كافة مناطق اليمن ،ودعت في مؤتمرها الدائم المنعقد في يوليو 1956 في القاهرة الى الوحدة اليمنية، وناهضت كل دعوة تتناقض مع هذا التوجه، وهي بذلك اول من اكد في العصر الحديث على وحدة الشعب اليمني ووحدة الاراضي اليمنية، وهو ما يعني ان فكر تلك الحركة قد اتسم بالعمق ،كما انطوى على نظرة استشراف  تتسم ببعد النظر حول مستقبل اليمن "  - كما يذهب د احمد القصير في كتابه "اصلاحيون وماركسيون- 

من هذا المعترك وارتداداته خرجت الاصوات الادبية الجديدة للتعريف باليمن المنسي، منها  القاص والروائي "محمد احمد عبدالولي" الذي احدث بنصوصه نقلة جمالية بالغة الاهمية في كتابة القصة ، وعرَّف بها في واحد من اهم المراكز الثقافية، حين اصدر في بيروت مجموعته الاولى "الارض يا سلمى" في العام 1966، بعد ان اقتصر الإصدار والنشر قبلها في مدينة عدن المستعمرة الانجليزية. اما الشاعر الرائد "محمد انعم غالب"  في اقامته كطالب في القاهرة منذ اواخر الاربعينيات بدأ بكتابة ونشر نصوصه الشعرية الجديدة التي التمت لاحقا في ديوانه  "غريب على الطريق" ، والذي عُدَ ه عبد الودود سيف اخطر ديوان يمني في ثلاثة عقود

ومع أنعم سيظهر شاعران رائدان في القاهرة هما "ابراهيم صادق"  صاحب عودة بلقيس ، و"عبده عثمان محمد"  الذي زامل عبدالصبور وحجازي  والفيتوري منتصف الخمسينات ، و اشترك مع "عبد العزيز المقالح " لاحقا في اصدار ديوان مشترك  حمل عنوان "مأرب يتكلم" مطلع السبعينيات.

الفضاء الذي فتحته ثورة سبتمبر 1962 كان لابد ان يتظهر منه وجه اليمن الجديد، غير ان سنوات الحرب ـ الملكية الجمهورية ـ  وعدم الاستقرار السياسي  بسبب تحول اليمن الى بؤرة للتصارع الاقليمي في عقد الستينيات، عتَّمت جزء كبير من الصورة التي كان من  المفترض ان تكشف عنها عملية التحول  ، لكن لم  تتنصع هذه الصورة الا في فترة السبعينيات التي كانت حاضنة للصوت الابداعي الجديد  الذي استطاع كسر العزلة الطويلة التي عانتها أصوات سابقيهم من الشعراء والادباء والفنانين  بسبب حالة الانغلاق التي فرضها نظام الحكم، وانعدام منابر التوصيل ، مستفيدين من جملة عوامل منها الإستقرار السياسي النسبي الذي شهدته البلاد  شمالاً وجنوباً ـ بعد ان وضعت الحرب الجمهورية الملكية اثقالها ، وكذا التسوية الاولى لإحتراب الشطرين ـ وعودة الكثير من الطلاب المبتعثين ومنهم شعراء وكتاب معروفين، الى جانب تأسيس العديد من المنابر الثقافية وعلى وجه الخصوص  الدوريات  المتخصصة بالموضوع الثقافي. 

بقي السبعينيون صوت رائد يقطر لاحقيه التالي من الثمانينيين، لكن مع مطلع التسعينيات كانت اليمن كجغرافية قد دخلت منعطفا  تاريخيا جديدا باندماج الشطرين في دولة واحدة، استولد حلما فارطا في رأس كل شخص عاش هذا الحدث ،الذي كان حتى قبل أشهر من تحقيقه بعيد المنال. وكان للشعراء والقصاصين والتشكيليين الشبان  مغامراتهم الاكثر جرأة في التماهي مع هذه اللحظة الفارقة ، لهذا صار الحديث عن كسر تابوهات الشكل وأصنام الابوة  ويقين السطوة، أهم ادوات هذه المغامرة ،حتى وهي تعبِّر عن وجودها باضطراب بائن.

وجد هؤلاء المبدعون في الحدث مساحة لمعاينة السؤال الوجودي .... من نحن وماذا نريد؟! ومع هذا السؤال استطال مفهوم التجييل ، الذي تحول في القراءات النقدية الى مجهر معاينة لخصوصية هذا الصوت باندفاعه الحالم وتاليا بارتطاماته الدامية في الصخور الصلدة للواقع العاري ،الذي تحول  في ظرف أعوام ثلاثة الى حفرة امتصاصية   إبتلعت  كل شيء .

مبذولات سنوات  الألفية في عشريتها الاولى لم تكن في نسقها الثقافي سوى تنويعات على خلاصة التسعينيين، من ادباء وفنانين ومثقفين الذين بقوا عاملا  مؤثرا داخل  البنية التجيلية التالية ، حتى أن التجارب الابداعية التي شقت مساراتها بعيدا عن هذه السطوة، كانت تظهر كظلال مستكين تحت شجرة  تقف وحيدة في العراء.

حملت العشرية الثانية من الالفية في احشائها صاعق الانفجار الكبير، والذي راهن على محموديته الجيل الشاب والجديد في  المجتمع، حين أبصر عملية التحول والتغيير على بعد خطوات ، لكنه لم يكن يبصر وحشا خرافيا كامنا خلف تل الحلم، يُسمِّنه  متصارعو  السلطة وبهلوانات السياسة.

عامان فقط وصار  فيها الحلم كابوساً اسمه الحرب ، لم يعدم مسيروها  في الجغرافية المتهتكة  من خلق مساحات للتنفيس عن الإحتقانات الاقليمية التي تتضخم في الجوار، فصار اليمنيون في مرجل واحد،  الكل يقاتل الكل، بمن فيهم المثقفون أنفسهم ، الذين " بدأوا بالتحوصل داخل هوياتهم الاضيق "السياسية والمناطقية والطائفية" حين لم يجدوا مؤسسات الثقافة ،التي ينتمون اليها، قادرة على حمايتهم ،والتعبير عن استقلاليتهم  ،وقبل هذا اذابة احاسيسهم بالتمايز داخلها، فصاروا  مع الوقت عنوانا لانقسام المجتمع ،عوضا عن وحدته وتماسكه،  بل وصاروا عنوانا لمتاريس المتحاربين في كل الجبهات، لانهم ببساطة لم يستطيعوا تشكيل صوتا نابذا  للحرب ومجرِّما لها، بسبب الضغوط الشديدة عليهم، وبسبب هشاشة تكويناتهم الفكرية، التي من المفترض ان تكون عابرة للجغرافيا والطائفة والعائلة " كما كتبت ذات وقت.

بعد أعوام خمسة صارت  البندقية هي التي تتقدم ، والحياة وحدها من تتراجع ،وليس في قول مثل على تقريريته الا ماهية تعيين الحال في البلد المنكوب ، بفعل الصراع الذي يخاض بأدوات شتى، اقلها الهتك لمظاهر الحياة، والتي غدت الثقافة احد عناوينها الرئيسة.

 اما الخلاصة التي تحاول هذه القراءة بمشغلها " التارثقافي " قوله أن اليمن الذي عاني  طويلا من كونه هامشا  قصياً في  ثنائية المركز والاطراف بتعيينها الثقافي، وحاول  مبدعوها خلال نصف قرن الفكاك منها بإحداث بعضون الخروقات "هنا وهناك" في جدرانها الصلبة، ها هي الحرب المستديمة، برغبة الامراء والمستنفعين في الداخل والاقليم تعيد  التعريف بهم وببلدهم من موقع الهامش بصيغ هتكية لبلدٍ فقير ومنسي.


Create Account



Log In Your Account