رواية أحمد زين : فاكهة الرفاق التي أكلها الغربان
الإثنين 04 مايو ,2020 الساعة: 09:06 مساءً
محمد عبدالوهاب الشيباني

(1)

هذه مقاربةٌ ثانيةٌ لما عَمِل عليه، روائياً، الكاتب أحمد زين عن مدينة عدن، في عمليْن سرديّيْن متتابعيْن، هما: “ستيمر بوينت” 2014، و”فاكهة للغربان” 2020.

عن العمل الأول، كتبتُ مادةً مطوَّلةً، قبل خمسة أعوام، واستدعى الإشارةَ إليها هنا مقتضى الربط التوثيقي ليس إلا؛ أما الأهم سيكون تناولُ محتوى العمل الثاني، كفكرةٍ وأنساقٍ وتقنيةِ كتابة.

(2)

المعاينةُ السردية لأحوال مدينة عدن عشيةَ استقلالها، في رواية “ستيمر بوينت” ترتكز بدرجةٍ رئيسيةٍ على تفكيك الثنائيات المتعارضة لشابٍّ يمنيٍّ فقيرٍ، وعجوزٍ فرنسيٍّ ثريٍّ، وتحوُّلهما إلى ذاتٍ واحدةٍ، ممتلئةٍ بحب المدينة التي وفد كلاهما إليها، فقيراً، من خارجها، وخَشْيتهما عليها وعلى حياتهما أيضاَ من النزعة الانتقامية للحكّام الجدد عشيةَ الاستقلال.

وفي رواية “فاكهة للغربان 2020″، يُتمُ الكاتبُ معاينةً أخرى لحال المدينة، بعد قرابة عقديْن كامليْن من المعاينة الأولى، وبعد أن صارت عاصمةً للشيوعيين العرب، كما كان يحاول البعض نعتها به، أو المدينة التي تحولت أرضاً للميعاد، بالنسبة للكثير من المناضلين والمطرودين من بلدانهم، كما يحلو لـ”بقطاش” الجزائري قوله عنها.

ومثلما اختار في “ستيمر بوينت”، ليلة الاستقلال، مركزاً حكائياً تصب فيه البُنى السردية في استرجاعاتها كأحداثٍ ووقائعَ وسيرٍ للشخصيات، اختار في “فاكهة للغربان” الفترة القصيرة لما قبل زلزال يناير 1986 زمناً روائياً، خلَّصه من التقريرية التاريخية ومن حمولة القراءة الصحافية، لصالح المؤثرات النفسية والثقافية للشخصيات الرئيسة والثانوية، وهي تعيد مراجعاتها الذاتية في سياق التجربة السياسية وحاضنتها مدينة عدن.

بنفس تقنية التوظيف البنائي لمركز السرد في “ستيمر بوينت”، مضى في “فاكهة للغربان” يتتبع شخصيتين مركزيتين، من خلال انفعالهما النفسي والثقافي، وهما تسترجعان علاقتهما بالأشياء غير المعزولة عن حالة الشدِّ السياسي الذي لفَّ عدن ومحيطها قبل الانفجار الكبير.

(3)

تقوم رواية “فاكهة للغربان”، في الأصل، على تهيؤ امرأة معطوبة القدمين “نورا” لسرد حكايتها عن حبيبها المخفي “جياب” لشخصٍ مقرَّبٍ منه، عمِل معه في الدائرة التي كان يرأسها قبل اختفائه. وفي المرات العديدة التي يذهب فيها هذا الشخص “صلاح” إليها، لكتابة ما سترويه عن رئيسه، تنشأ لعبةُ المخاتلة بين “متكلمٍ ومستمعٍ”، تتحول في المضمر الى “أناتين ساردتيْن”، ويتحول الحديثُ إلى ارتداداتٍ حكائيةٍ متشعبةٍ، محكومةٍ بتداعياتٍ طويلةٍ ومرهقة. والأصل في ذلك “إصرار نورا عدم حكي حكايتها دفعة واحدة، إنما تواصل إسماعها له في ما يشبه الشظايا، مثل شخصٍ ينهمك في ممارسة لعبة ذهنية”.

هو يريد استخلاصَ الصورة المغيّبة لرئيسه المخفي مما ستحكيه له؛ “لكن مزيداً من الكلام عن جياب، يجعله يتردى في الحيرة. فلم يبدُ عليه أنه عرفه جيداً عندما كان رئيسا لدائرته، ولا عرف أيضا رفاقه؛ فهل كانت نورا تفشي حقيقتهم التي غابت عنه أو ضيّعها هو، على وقع الحماسة؟ أم هي تختلق كل ذلك لدواعٍ انتقامية؟”.

وهي تريد، بحكايتها المتقطّعة، قولَ رأيها في التجربة السياسية وقادتها، والتي كان جياب أحد أعلامها: “عندما كان رفاقك يحاربون الاستعمار، كانت لديهم مُثُلٌ نبيلةٌ، وقدامَ أعينهم مثالٌ أعلى. بعد الاستقلال، ظنوا أن الُمثل لم تعد تلزمهم، وأنهم أصبحوا المثال الأعلى… كانوا مثل العميان، باستثناء أنهم يرون واحدَهم الآخر، ثم لم يعد واحدُهم يرى إلا نفسه وقد ضاق برفيقه. أضاعوا على هذه البلاد فرصةَ أن تكون …”.

بين نورا وصلاح، سيحضر المناضل الثوري والقائد الحزبي الملقب ب”جياب” كمشتركٍ ملتبسٍ بسيرتيْن مختلفتين تماماً عند الاثنين، وهو نفسه القائد الذي أخذ لقبه عن المناضل الفيتنامي فون نغوين جياب، العدو الشريف الذي هزم الغرب الإمبريالي.

(4)

تتجسم “نورا” -امرأة تخطت الأربعين بقليلٍ وخبرت رفاقاً كثيرين، وطافت العالم، تلفّ جسدها بعلَم بلدها جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، وهي تؤدي بلا هوادةٍ، ضمن الفرقة الوطنية، لوحاتٍ راقصةً فلكوريةً، إنما بها الكثير من شغفها بالحياة وتوقها للتحرر- في البداية، من خلال الكابوس الذي يلازمها، بصوتٍ داخليٍّ ملؤه الحزن: “عاودني ذلك المنام، وتراءت لي وسط غبارٍ أثارَهُ ركضي في تلك الأزقّة الملبّدة بالظلام، الأيدي الغليظة وهي شفراتها بأشعةٍ مبهرة، فيما كانت الدابة تتهاوى في كيفيةٍ غريبة”.

أما الحلم الذي يتركب مناماتها، سيصير فعلاً متحققاً، حين يدلُق على قدميها أشخاصٌ ملثمون مادةً حارقةً، وهي خارجةٌ من الـ”روك هوتيل”، ولم يزل صوت المغنية الأمريكية بيلي هوليداي حاراً في أذنيها، عن فاكهةٍ تُركتْ للغربان، ثم لا يُسمح لها بالمغادرة للعلاج، حتى تتعفن قدماها الراقصتان. لكنهما، بعد أن تغرق المدينةُ في عتمة الدم التي استنهضها ينايرُ القاتل، تقومان أخيراً، “بحركةٍ راقصةٍ واسعةٍ قليلاً، مع نصف استدارةٍ تبقيها في الهواء لثوانٍ، قبل أن تهبط وتروح تواصل الأداء، كأنما غير آبهة بكل ما يحيطها من حطام”.

ويحضُر صلاح الريفي بصورة المكافح الثوري، الذي يصل إلى موقعٍ مهمٍّ في دائرةٍ حزبيةٍ تختص بالتنسيق مع الأحزاب والمنظمات الثورية في “جنة الشيوعيين العرب”، لكنه يُرغم على ترك الدائرة والتخلي عن الملف الذي كان يمسكه، بعد أن تم فرْزُ الرفاق إلى معسكريْن قبل الانفجار.

وبين نورا وصلاح، سيحضر المناضل الثوري والقائد الحزبي الذي يعرف بـ”جياب” -لقب أخذه عن المناضل الفيتنامي فون نغوين جياب، العدو الشريف الذي هزم الغرب الإمبريالي- كمشترك ملتبس بسيرتيْن مختلفتيْن تماماً عند الاثنين. والذي يُعاد تجميعه، في حكاية نورا، من أكثر من صورةٍ لرئيسٍ فِعْليّ. فهو تارةً صاحبُ قرار التأميم، والذي تهتف الجماهير باسمه “سالمين”، وهو الممسك بكل المواقع، “علي ناصر”، وهو الزعيم الذي بدأ موظفاً صغيراً في الميناء، يظهر في صورةٍ مع أمير الكويت، ويُجبَر على تقديم استقالةٍ من سطريْن ويذهب إلى منفاه في موسكو، ثم يضطر بعض الرفاق للذهاب إلى موسكو لإقناعه بالعودة، وأخيرا هو الذي يَقتُل في اشتباكاتٍ مع الحراس “عبد الفتاح إسماعيل”.

وغير هذه الشخصيات، يظهر في النص العديد من الشخصيات، مثل الأب الذي”استنْبته” الكاتب عرضاً، في مشهدٍ قصيرٍ فقط، من أجل تثبيت وجهة نظر المتضررين من التأميم والحكومة الاشتراكية، من خلال بضع جُملٍ استفهاميةٍ وتقريريةٍ يرميها في وجه صلاح، حين يجده، وبالمصادفة، ولمرةٍ واحدة، في مسكن الابْنة المُقْعدة.

كما يحضر الفلسطيني “نضال”، بعجرفته وصلفه وشغله المشبوه، و”عباس” العراقي الذي يكون شاهداً على انقسام الشيوعيين العراقيين وشتاتهم، و”بقطاش” الجزائري الذي يترك دراسة الطب في ألمانيا ليلتحق بمعهد باذيب للاشتراكية العلمية، و”سناء” الفلسطينية، بما تتعرض له من اضطهادٍ وقسوةٍ من “نضال”.

أما عدن، فتظهر بملامحها “الكوزموبوليتية” الشاحبة، في شوارعها ومعالمها ومطاعمها بعد عقديْن من مغادرة الإنجليز لها، وتظهر بملامحها الاشتراكية الساخنة في الأغاني الثورية واللافتات وطوابير الخضار، وباصات النقل الجماعي وأندية الترفيه الذي يستثمر فيه الرفاق. والأهم، حضورها في دورات الدم التي يتصفى فيها الرفاق.

(5)

أكثرُ من مصيرٍ تلقَّفَ “نورا”؛ فابنة الإقطاعي الكبير وسليلِ السلاطين وربيبِ الإنجليز، والتي تربّتْ لدى أسْرةٍ إنجليزيةٍ في عدن، سينتهي بها المطاف، بعد مصادرة ممتلكات أبيها، للعمل ضمن فرقة الرقص الوطني، التي ستقدم تراثَ البلاد في المحافل الكبرى. وإن الذي سيضغط على يديها بمغزىً كبيرٍ، بعد نزولها مع أعضاء الفرقة لتحية القيادة بعد حفلٍ كبيرٍ، سيكون “جياب”، عشيقها فيما بعد، الذي سيخفيه الرفاقُ قبل قتله، وبسببه سيُعطِبون قدميها اللتين تقول عنهما إنها كانت تقاوم بواسطتهما “سماكة الحياة بالرقص، لكنها اليوم تشعر أن روحها أصبحت ثقيلةً، وأنها تترنح في محيط من اللزوجة”.

تداخُل الأصوات التي يقطُرها صوتُ سارد رئيس، إلى جانب تمازج وتشابك الحكايات وتشتيت الزمن وتجزئته، واللعب على التاريخ السياسي بأدوات الكتابة الأدبية وفي مقدمتها التخييل، تصير في “فاكهة للغربان” تقنيةً شديدة الخصوصية.

الظروفُ السياسية والتحولات في البلد ستُتيح لصلاح أن يقترب من صفة المناضل الكامل، والذي ظن أن المسدس الموضوع بجراب أسود قد صَنع مسافةً واضحةً بينه وبين الريفي المتخلّف. لكنه، بعد مقابلته الأولى لنورا، صار “يختبر شعوراً لم يبدُ له جديداً تماما؛ إذ هو الشعور نفسه الذي تملّكه بمجرد أن أعطي مسدساً، بصفته أمسى من حملة الأسرار، أن كل الخطوات تقريباً قطَعَها، ليترك مسافةً هائلةً بينه وبين ذلك الريفي، الذي مازال يسحبه للوراء، وأن ما تحقق له حتى الآن لم يستطع تبديد الشك بالنقصان الذي ما برِح يخالجه في قرارة نفسه، يعترف أنه لم يصلْ بعدُ إلى النقاء الإيديولوجي”.

مثلُ هذا الاختبار النفسي، جعله أكثرَ ليونةً، وأكثرَ استبصاراً بماهية الحال، وعلى وجه الخصوص الحياة في عدن، التي تصبح، كما قال لأحد الرفاق العرب، رويداً رويداً قاسية. “تعود إليه هواجسُه وتحمِله بعيداً، فيبدو المنظر قُدّامه شاحباً، كثيراً ما ينتابه يقينٌ أن نيل الرفاق من بعضهم البعض بوحشية هو المبدأ الوحيد الذي لا يسعهم تغييره، تغذّيه ثاراتُ قبائلَ وضغائنُ مناطقيةٌ، أكثر من أي اختلاف إيديولوجي”.

سيدفع ثمَنَ قبوله كتابة حكاية نورا وجياب؛ لأن الطرف الذي أخفى رئيسه وقَتَله تالياً هو من سيجرده من وظائفه. لكن هذا التجريد سيمنع عنه الموت في الأحداث. “ولكن بمجرد ما تنحدر قدماه على الطريق الملتوي، الذي يفضي أحدُ الأزقّة فيه إلى البحر مباشرةً، سيكون كمن يغادر حياته التي ألِفَها لسنوات، من دون أن يداخله يقينٌ أنه كان يدرك كل خباياها، ويستقبل حياةً جديدةً لا يعرف عنها شيئاً أيضاً، وستقصر بدورها عن مده بوعودٍ سارةٍ. وعندها، لن يعلم إن كان سيبقى في عدن، أم يندفع عائداً إلى ريفه البعيد”.

  وسيعرف بالمصادفة، وهو في طريقه، ولآخر مرة، إلى منزل نورا الذي اتخذ قراراً بطردها منه، أن الرفاق العرب، “سناء” الفلسطينية، و”عباس” العراقي، و”بقطاش” الجزائري، وآخرين، والذين ظنوا عدن جنّتهم على الأرض، رحلوا على متن سفينةٍ روسيةٍ، ويشعر الآن أن حياته من دونهم تذْوي وتؤول إلى فراغ.

(6)

تداخُل الأصوات، التي يقطُرها صوت سارد رئيس، إلى جانب تمازج وتشابك الحكايات وتشتيت الزمن وتجزئته، واللعب على التاريخ السياسي المبذول كحقائقَ في القراءات السيّارة، بأدوات الكتابة الأدبية، وفي مقدمتها التخييل، تصير في “فاكهة للغربان” تقنيةً شديدةَ الخصوصية، وتستدعي، للتعاطي والتماهي معها، قارئاً غيرَ كسولٍ يستطيع، في نهاية الأمر، إعادة تجميع الأشتات في صورةٍ نقيةٍ وكاملةٍ، أو إعادة تركيب “قطع تظهر متنافرةً في البدء، وألّا سبيلَ معها للوصول إلى غاية، إلا أنه مع توالي اللعب تتكشّف تدريجياً ملامحُها، لتعبِّر عن وجهٍ، مثلاً، أو مشهدٍ طبيعيٍّ، وربما صورةٍ مريعة”.

ومختصرُ ذلك هو القول إن الاشتغال، وبصبرِ “نقَّاشٍ”، على التفاصيل الدقيقة والمقاربات النفسية لانفعالات الأشخاص بذكاءٍ وخبرةٍ، واحدةٌ من أهم مبذولات النص وسماته البنائية، حتى وهو يراكم تشظياته في المحكيّ والتزمين. وما تبدَّى مشتتاً كوحداتٍ حكائيةٍ سائلة، هنا وهناك في المكتوب، يصير في النهاية حكايةً واحدةً، وبتفاصيلَ كثيرةٍ شديدةِ التماسك والسلاسة.


Create Account



Log In Your Account