الهمداني وذلَّة كهلان وحيرة حمير!!
الإثنين 15 يونيو ,2020 الساعة: 08:24 مساءً

يُعد الحسن الهمداني المُؤسس الأول للمُنطلقات التحررية الوطنية، عايش اللحظات الأولى لتأسيس دولة «الإمامة الزّيدِيّة»، ودافع باستماتة عن اليمن ومَجدها الحضاري، وعارض الفكر الإمامي الكهنوتي العُنصري، وقال مُنتقدًا الإمامة والإمام:

تملكها بمخرقة رجال

بلا حقٍ أُقيمَ ولا بِحدِّ

وقد كانت على الإسلام قدمًا

ولم تسمع بهادي قبل مهدي

هو أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن داؤود بن سليمان الأرحبي ثم الهمداني، مُؤرخ، وعالم بالأنساب، وعارف بالفلك والفلسفة والأدب - شاعر مُكثر، أطلق على نفسه لقب «لسان اليمن»، ولقُب بـ «ابن الحائك» لكونه سليل أسرة توارثت حوك القوافي وتثقيفها، ولد بصنعاء «19 صفر 280هـ»، ونشأ فيها، وطاف البلاد، واستقر بمكة زمنًا، وعاد إلى اليمن، وأقام في صعدة لعدة سنوات، وهاجى شعراءها الإماميين، فنسبوا إليه أبياتًا قيل: عرَّض فيها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليأمر «الناصر» أحمد بن «الهادي» يحيى بن الحسين بحبسه «رجب 315هـ»، وهدم داره، ثم ما لبث أنْ أفرج عنه بعد عشرة أيام؛ وذلك بعد أن تدخل بعض رجالات قبائل «خولان الشام» للوساطة بينهما.

يمم الحسن الهمداني بعد ذلك خطاه صوب صنعاء، ليتعرض لمحنة السجن مرة أخرى على يد الأمير أسعد بن يعفر «319هـ»، وبتحريض من «إمام صعدة» السابق ذكره، ليطلق الأول سراحه بعد «21» شهرًا، و«19» يومـًا «17 ذو القعدة 321هـ»، وذلك بعد ضجت مناطق اليمن الشمالية بالتمرد والثورة، وكادت صفحة «الإمامة الزيدية» أنْ تطوى وإلى الأبد.

كانت علاقة «إمام صعدة» بـ «آل يعفر» مُتوترةً بعض الشيء، صحيح أنَّهما اتحدا لمحاربة أشياع علي بن الفضل الذين أرادوا الانتقام لمقتل زعيمهم، إلا أنَّ عدم الوفاق كان هو السائدُ، وقيل عكس ذلك، ولـ «النَّاصر» أحمد قصيدة خاطب بها الأمير أسعد بن يعفر توضح تلك العلاقة، وتلخص فكره ومنهجه العنصري، جاء فيها:

إذا جمعت قحطان أنساب مجدها

فيكفي معدًّا في المعالي محمدُ

به استعبدت أقيالها في بلادها

وأصبح فيها خالق الخلق يعبدُ

وسرنا لها في حال عسرٍ ووحدة

فصرنا على كرسيّ صعدة نصعدُ

ولا منبرٌ إلاّ لنا فيه خطبةٌ

ولا عُقِدَ مُلكٌ دوننا الدهر يعقدُ

تبعًا لذلك، كانت آخر حروب «النَّاصر» أحمد مع الأمير حسان بن عثمان آل يعفر «5 جمادي الآخر 322هـ»، كانت للأخير نزعة استقلالية في حكم المناطق الشمالية، ولا علاقة للأمير أسعد به، قدم إلى صعدة لنُصرة «اليرسميين» - وهم بطن من «همدان» - في حربهم مع «الأكيليين»، وهي الفتنة التي جعلت «إمام صعدة» يلزم منزله لبعض الوقت، خاصةً بعد أن أصبح طرفًا فيها، وناصبه «اليرسميون» العداء.

أتت قبائل «خولان الشام» لنصرة «النَّاصر» أحمد، إلا أنَّها لم تُغّنِ عنه شيئًا، كانت هزيمته خارج مدينة صعدة ماحقة، قُتل أخوه الحسين، وعمه الحسن، وعدد من أنصاره، وقبل تلك المعركة، وقيل اثنائها مرض مرضه الأخير، ومات بعدها بتسعة أيام، ودفن بجوار والده، وأخيه.

وذكر المُؤرخ علي بن الحسن الخزرجي أنَّ ثورة تلك القبائل على «إمام صعدة» كانت بسبب استنجاد الحسن الهمداني من سجنه في صنعاء بها، وقد ناشد الأخير بني عمومته بقصيدة طويلة جاء فيها:

خليلي إني مخبرٌ فتخبرا

بذلَّة كهلان وحيرةَ حميرا

عذيري من قحطان إني مشتكٍ

عواديكما ظلما وخذلا فانكرا

وأصبحت مأسورًا بأيدي معاشرٍ

رضاً لهم بأقبح ذا متذكرا

أظل أقاسي كل أحمر ضيطر

زبانيةً حولي وكبلًا مسمرا

ويسقط مني ذاك عن حي حمير

وسيدها المنظور فيها ابن يعفرا

انخت به خوف العداة وغدرهم

فألفيته فيهم على الأمنِ أَغدرا

بعد هزيمة «الناصر» أحمد ووفاته، اجتاح الأمير حسان بن يعفر مدينة صعدة، فيما غادرها «العلويون» مذعورين، منهم من توجه إلى القبائل المُناصرة لهم، ومنهم من توجه إلى الأمير أسعد بن يعفر، أنجدهم الأخير، فما كان من حسان إلا أن ولى هاربًا إلى نجران «7 رمضان 322هـ».

عاد «العلويون» إلى صعدة، وعاد بعودتهم الصراع؛ حرب طاحنة دارت بينهم و«اليرسميين»، انتصروا فيها، لتبدأ بانتصارهم صفحة قاتمة لصراع دموي استمر لسنين، كان أحفاد «الهادي» يحيى الطامحون أبطاله، وكانت القبائل المُتصارعة - المساندة لهذا الإمام أو ذاك - وقوده، وكانوا جميعًا ضحاياه، وبسببهم تحولت «دويلة الإمامة» إلى عصابةٍ يتلقفها الأدعياء، ولم تُخلف سوى الخراب.

وبالعودة إلى سيرة الحسن الهمداني، فقد توجه بعد خروجه من سجن صنعاء إلى ريدة، وفيها استقر، أثنى عليه المؤرخ الخزرجي بقوله: «هو الأوحد في عصره، الفاضل على من سبقه، المبرز على من لحقه»، وأضاف ذات المؤرخ: «وتوفي بريدة من أرض همدان، وكان استوطنها في آخر عُمره، وكان عمره كُله ستًّا وخمسين سنة».

من تصانيفه «الإكليل»، و«سرائر الحكمة»، و«القوي»، و«اليعسوب»، و«الزيج»، و«صفة جزيرة العرب»، و«الجوهرتين» في الكيمياء والطبيعة، و«الأيام»، و«الحيوان المفترس»، و«ديوان شعر» في ستة مجلدات، ويعود فقدان معظم كتبه إلى عدة أسباب، منها: عصبيته لـ «القحطانية» التي حملت «النزارية» ومن يتعصبون لهم على إعدام كتبه وشعره، وإقامته باليمن البعيدة عن حاضرة الخلافة.

دافع الحسن الهمداني - كما سبق وأشرنا - باستماتة عن اليمن ومجدها الحضاري، وقال «الدامغة»، وهي قصيدة طويلة، قرابة «600» بيت، مطلعها:

ألا يا دارُ لولا تنطقينا

فإنا سائلوكِ فخبرينا

وما افتخر الأنام بغير ملك

قديم، أو بدين مسلمينا

وما بسواهما فخر وإنا

لذلك دون كُلٍ جامعونا

أعناكم بدولتكم ولـمَّا

نرد منكم بدولتنا معينا

وقال فيها أيضاً:

ولكني رعيت حقوق قومٍ

يكون ودادهم في الله دينا

فحزتم بالنبي ونحن أولى

به للنصر من بعض البنينا

وما كان ابن نوح قبلُ أولى

به من تابعيه المؤمنينا

ولن يرث النبوة أقربوها

وفضل ثوابها للمسلمينا

عارض بها قصيدة الكُميِّت التي فخر فيها بالعدنانية، والتي مطلعها:

ألا حُيِّيتِ عنا يا مدينا

وهل بأس نقول مسلمينا

يُعد «الإكليل» أهم كتب الحسن الهمداني، ولم يعثر من أجزائه العشرة إلا على أربعة أجزاء، وبعض جزء، هي: الأول، والثاني، وبعض السادس، والثامن، والعاشر؛ وقيل إن هذا الكتاب تعذر وجوده للمثالب المذكورة فيه في بعض قبائل اليمن، فأعدم أهل كل قبيلة ما وجدوه من الكتاب، وقيل أيضاً - وهو الراجح - أن الأئمة «الزيود» أخفوا تلك النسخ، لأنه - أي الهمداني - أنكر هاشمية بعضهم، وألحقهم بالفرس، وقد ذكر أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب» أنَّه وأثناء تواجده في صنعاء قيل له أن كتاب «الإكليل» كاملًا - بعشرة أجزائه - موجود في مكتبة الحضرة الإمامية، فأين ذهب إذاً؟!!.


Create Account



Log In Your Account