الرؤية والتمرد والغناء عند الفتيح
الأربعاء 17 يونيو ,2020 الساعة: 08:45 مساءً

مدخل

سبعة أعوام انقضت، منذ غادرنا -مكلوماً في 13 يونيو/ حزيران 2013- الشاعر الكبير محمد عبد الباري الفتيح “أبو مطر”، الذي يُعدّ واحداً من الآباء الكبار لقصيدة التمرد في الشعر الشعبي في اليمن، حتى تلك النصوص التي كتبها ووجدت طريقها إلى أصوات المغنين، ودندنات الملحّنين لم تخلُ من تمردٍ على القوالب الجامدة في النصوص الغنائية، كما سنلحظ ذلك في ثنايا هذه القراءة، التي تقف على حواف مجموعته المسماة “المشقَّر بالسحابة”، وبعض النصوص من خارجها.

(1)

من النادر جداً أن يغمرك الإحساس بأن ثمة تطابقاً بين سيرة الشخص وحضوره الإبداعي، ومردّ ذلك عند الكثيرين إلى طبيعة التعارضات الحادة التي تفرضها ثقافة مجتمعاتنا وعلاقاتها المشتبكة داخل مساحة ضيقة تتنازعها مؤثرات التربية وضرورات المُعاش في نسق اليومي واعتمالاته النفسية والثقافية.

النادرُ من هذه الحالات التي نظن أنها كسرت هذا النسق لتحافظ على توازنها، في ظل متغيرات وانهدامات كبرى تحوطها، يتعين في حال مقاربتها - كحالة للدرس والقراءة- استقراء تجلياتها مكتملة الأركان، كشرط أساسي للنفاذ إلى عمقها، ولن يصح أو يتأتى إلا من خلال معايشتها أو الاختلاط القريب بها أو الاعتقاد بذلك، مثلما سأحاول فعله هنا بمقاربة أنموذج (أستاذي وصديقي) المرحوم محمد عبد الباري الفتيح “أبو مطر”، والذي يجسِّد من وجهة نظري واحدة من أوضح الحالات وأكثرها تعييناً بحضوره كإنسان ورؤيته كفنان عاش من الزمن سبعة عقود ونصف، أمضى أكثر سنينها معجوناً بطين البسطاء، يلتقط أشعاره من قلب الحياة وتشعباتها الضاجّة، والتي تتحول - أقصد الحياة بأيامها المنسرحة في ثنايا النصوص المتداولة – إلى مزحة كبرى، فكوارثها المفجعة لا تستوجب منا كقراء لقصائده سوى “الاحتجاج” بصوتٍ مرتفع حسب رغبته ككاتب، أما مُبهجاتها وسلوانها فيمكن أن تُختزل إما في قصيدة قابلة للتلحين والغناء، نهجل بأبياتها ونرقص على إيقاع كلماتها البسيطة مثل صاحبها، أو أن تستكين كنتفٍ في قعر المسكوت عنه والمغيَّب، تاركةً لمصائرها القرائية أن تتداولها الألسن بدلاً عن ترويجها المكتوب، بسبب فعل الحفر الذي تقوم به في عمق ما لا يقارب لجهة العيب والمحرَّم.

(2)

التوقفات والإشارات لن تنتهي أمام عشرات النصوص والومضات الشعرية الجادة والساخرة، التي استشرف الفتيح ما سيكون عليه الحال، بحدس الفنان والرائي الملهم.

 قبل وفاته بقليل وأنا أقرأ محتوى مجموعته المشقّر بالسحابة ونصوص من خارجها، لمحاولة كتابة ثانية عنه، توقفت عند واحدة من إشاراته الملهمة، التي تنبأت بثورة “فبراير المغدورة” قبل ما يقرب من عقد ونصف من الزمن من وقوعها حين كتب:

قال المتيَّم بأرضه

ما يجبر الكسر جابر

غير ثورة اليأس في الناس

لما تموج في الشوارع

غضب وطوفان زوابع

 

بأردأ زمن ترفع الراس.

الحكيم المتشبث بالأرض، المغموس بترابها العنيد، قادرٌ على استخلاص إن اليأس الذي اعتمَّ دواخلنا وتحول إلى كسر عصي لا يمكن جبره، إلا بثورة تتلبس كل الناس وتخرجهم إلى الشوارع، مثل الأمواج العاتية المحمَّلة بالطوفان والزوابع، القادرة على اقتلاع كل شيء أمامها.

الزمن الرديء الذي جعل من التمرد والثورة فعلَ مستحيل، سيتحول إلى فعل للمفاخرة والكبرياء، وبه سنرفع رؤوسنا إلى السماء العالية. أليس هذا ما حدث؟ طبعاً قبل أن تتحول الثورة إلى ثورة مضادة، ممن حسب عليها!

شاعر تعلمنا منه معنى التمرد في الفن، ومعنى أن نطرب ونرقص مع أغانيه التي رددها بسطاء الناس في المدن والأرياف، وها هو يعلمنا مرة أخرى، حتى بعد رحيله، معنى البساطة وهو أبٌ كبير للثورة، وربيع الشباب الذين كتب عنهم يوماً فقال:

الأمم بالشباب

بدءها والمآب

وبإصرارهم

 نتحدى الصعاب

والخطر نركبه

شرف الانتماء

شدهم للحما

والتراب للنماء

بالعرق والدماء

الشباب خصَبه.

في أيام الوحدة الأولى كتب وبالعامية الساخرة نصاً رؤيوياً خالصاً للعليين (البيض وصالح)، اللذين صارا عنده واحداً مكرراً (علي المكرَّر):

علي المكرَّر كما حسّك تطعفر حقيني

حكِّم تمام قبل ما نصبح نقول: آه يا عيني

كما قد الكيل عندي فاض وقا رأيت جنوني

شاعصد أبوها عصيد وكلهم يعرفوني.

(3)

 (أبو مطر ) شاعر أنجبته الطبيعة، ليس من أجل عبادة أقانيمها، ومخرجات علاقاتها المتباينة، بل ليلتقط كل ما يمكن أن يكون لحظة للفرح أو للسخرية أو للألم، لأن الكائن الذي دخل إليها من أبسط المهن، وجال في جغرافياتها أو معارفها وخَبِرَ ناسها بمقدوره وبكل بساطة أن يعلمنا كيف نعشق:

بحسي كل لحظة أنت

وحُلمي في المنام

ودقات الفؤاد باسمك

وفي البال انحفر رسمك

كذا فليعشقوا ولا على الدنيا السلام.

وعلمنا كيف نسخر:

سيدُ الكباش في الأرض

وباشة الضأن

نم مستريح البال

 قرير الأعيان

واهنأ بتكريم مالقوش إنسان

صلَّت على روحك

“صرور” وغربان.

وكيف نقرأ الحياة:

الكرملين سبعين سنة تمركس

وشكَّل أحلام الشعوب وهندس

واجا الرفيق جوربي يشل ريوس.

وكيف نثبت:

الليل والغدرة وغول الجوع

وأحمد شوربان

ما ليَّنوا عودي

ولا من دهري القاسي

ترجيت الأمان.

وكيف ننتصر:

المبتدأ والخبر أنا وغيري حروف

كم طاغية قد قهرت وكم لويت من سيوف

وكم مغامر تجرع من كؤوسي الحتوف

صفيت حسابي معاهم والعوالم تشوف

وكيف نغني:

لورد خدك واضحى العباهل

صلى الندى بمهرجان حافل

وأبحر بعينيك حادي القوافل

وما يزل في بحر ماله ساحل.

وكيف نرقص:

والله لغني ورقِّص بالسما الأطيار

وأسقي الأحبة كؤوس ممزوجة بالأشعار

شسكب لحوني على أهل الهوى مدرار

واستحلف الساعة تمدد شهور وأدهار.

وكيف ننصِف غيرنا من الأحبة:

هاشم علي يا تعز فنان طويل الباع

شكل جداريتك بالعرضي شلال إبداع

نبيلة الأفق والمضمون والإيقاع

تروي ظمأ الروح والأبصار والأسماع.

وكيف ننحت الصورة:

جبل صبر عالي حتى على الشمس

والغادية يهمس بأذنها همس

“أبو مطر” شاعرٌ غنى للراعية من قلبه، في اللحظة التي رثى بها العالم وبكى آلامه من ذات القلب. استحضر الباهوت “أحمد بن علوان” ليستمد منه القوة ذوداً عن شرف الإنسان:

ذاتي في ذاتك ذابت يا باهوت

تستمنحها القوة والإصرار

على قهر الجوع وليل الطاغوت

وتعاهدها أن تحيا صامدة

أو تقضي واقفة ذوداً

عن شرف الإنسان تموت.

 ويستعيد وجهاً آخر للبساطة والسخرية “الشاعر الشعبي مقبل علي” ليسكب بعيوننا الضوء لنرى الحال:

يا شاعر الريف والمدينة لك من الجمهور مليونين شبَش

فبادله الإخلاص غُص للّبّ.. جلِّش له القِرش

واسكب بعينه الضوء خليه يستضي

كم بوجه الراعية لدغة حَنش.

قد تُنهِك “أبو مطر” الحياة في بعض منعطفاتها الحادة وتسرِقُ منه في لحظة ضعف شهادة صارخة:

يا بو أمين اختلّت الموازين

وهاجرت أشكالها المضامين

وردد الضدُ بعد ضدِّه آمين.

غير أنه بالمقابل سيُطرِب وبجنون فنان القادمين إلى حياة جديدة -العرسان- جاعلاً من ليلة الزفاف من الليالي الألف:

الليلة من ألف ليلة

والليلة قمري الخميلة

تم اقترانه بعيله

فغردين يا قمارى

وزغردين يا عذارى

خلي الجبال والصحارى

تعيش في ألف ليلة

(4)

في أواخر يناير الماضي نظمت مؤسسة بيسمنت في صنعاء فعالية تكريم للفنان عبدالباسط عبسي، وكنت أحد المتحدثين فيها، وفي جزئية علاقة باسط بالفتيح قلت:

“وما دام الحديث عن تجربة الفنان عبد الباسط عبسي الفنية الكبيرة والثرية، لابد من التوقف هنا أيضا عند إسهام واحد من أساطين الشعر الغنائي الكبار في اليمن، الذين أسسوا لهذا الصوت ومدّوه بالعافية منذ التكوين الباكر قبل نصف قرن، ونعني هنا الراحل الكبير محمد عبد الباري الفتيح، الذي أنتج مع باسط العديد من الأغاني ذات الاستثناء المهم في تاريخ الأغنية بخصوصيتها الثقافية لمحافظة تعز. فمن منّا لم يستمع إلى أغنية “الليل وا بلبل دنا” ولم يطرب، أو استمع إلى أغنية “واقمري غرد” ولم تأخذه النشوة بعيداً أو استمع إلى “ما أمرّ الرحيل” و”أينه شتسافر واعندليب” و”الليلة من ألف ليلة” و”يا طير يللي” و”لا أين يا رجال”، دون أن يحس أن أقدامه تغوص في أديم الأرض، وتمتلئ رئتاه برائحة ترابها وزروعها.

واقمري غرد ماعليك من هم

خلك معاك وأنته بقربه تنعم

مش مثلي اتجرّع كؤوس عقلم

سقيم بحالي بس ربي يعلم

 اشكي بعاد خلي أيحين شاشوفه

 لمن ترك وردة خيار قطوفه

 صباح مساء أحلم ولو بطيفه

يا قُمري والخل ما ذكر أليفه

لروحه المتمردة السلام في ذكرى رحيله السابعة وهو القائل:

مش عنتريات كلامي.. ذا كلام الرجال

ياما صلِف جاءني مافون وراح بالوبال

جنى الهزائم وانا أجني شموخ الجبال

وأنقش على صفحة التاريخ: قهري محال.


Create Account



Log In Your Account