الجمهورية المظلومة وعبدالله الأحمر
الأربعاء 25 أُغسطس ,2021 الساعة: 11:33 صباحاً

يصف عبدالله حسين الأحمر حرب التصفية لأبطال حصار السبعين في أغسطس 68 بأنها كانت حربا بين اليساريين المستهدفين لليمن بأكملها -حد زعمه- وبين الصف الجمهوري، ويقصد هنا باليساريين ضباط الجيش الذين دافعوا عن صنعاء إبان حصارها يتقدمهم رئيس الأركان عبدالرقيب عبدالوهاب، 
فيما قصد بالجمهوريين هو ومن إليه ومن أسماهم بقوات (حاشد)، زاعماً أن الصف الجمهوري انتصر على اليساريين، وقام بنفسه -بعد تصفيتهم- باقتياد كثير من الضباط والجنود إلى السجن فيما طرد البعض الآخر إلى عدن عاصمة الشطر الجنوبي وقتذاك.

هذا التزوير القميء للتاريخ والشيطنة لأحرار الجمهورية -الذي كتبه من عدَّ نفسه منتصراً- تنبّه له الأستاذ عبدالله البردوني قبل زمن طويل من كتابه الأحمر لمذكراته، إذ يقول البردوني عن أحداث أغسطس الدامية "شكّل الانتهازيون من الجمهوريين متاريس داخلية ضد الثوار الوطنيين، والتقى الانتهازيون والبائدون في نقطة واحدة: القضاء على الثوار المبدئيين، لأن الثوار المبدئيين كانوا يقاتلون عن دافعين: انتصار المبادئ وانبجاس الوطن المنشود من الوطن التطوري، وكان ذلك شبه تحالف ضد الثوريين لأنهم عقبة في وجه التصالح".

والحقيقة أن القراءة المنصفة للأستاذ البردوني هي الأقرب للواقع إن لم تكن التشخيص الدقيق لما حدث، إذ بعد تصفية الجمهورية من أبطالها بدءاً بالزعيم الخالد عبدالله السلال ثم أبطال معركة السبعين، تهيأت الساحة للباحثين عن اقتسام الكعكة مع العصابات الهاشمية وهو ما توجوه بما أسموها "المصالحة الوطنية" التي أعادت الكهنوت الهاشمي العنصري من بوابة الجمهورية!

كان أبناء المناطق الوسطى والغربية- الذين تعرضوا للتصفية في أحداث أغسطس- أكثر تمسكاً بثوابت الثورة والجمهورية، منطلقين في تمسكهم ذاك من بعدين رئيسيين، الأول انعتاقهم من حكم عصابة سلالية عنصرية جعلت منهم ومن آبائهم رعية لها، محكومين لا حاكمين، وسماح الجمهورية لهم باعتلاء سدة الحكم وتولي المناصب العليا بعد أن كانت حكراً على الكهنوت السلالي والدوائر الضيقة المحيطة به جغرافيا ومذهبيا؛ والثاني كسر حالة الفُرقة المجتمعية -على أسس ٍمذهبية- التي أوجدها وغذّاها الكهنوت الهاشمي العنصري بين أبناء اليمن الواحد، في السهول والمرتفعات الجبلية، وكان لكسر هذا الحاجز النفسي أثره في التقاء أبناء اليمن تحت راية المشروع الوطني الجمهوري واستعادة حقهم الأصيل في الحكم والسيادة.

لذلك، ظلت الهاشمية تتحين الفرص لضرب التلاحم الجمهوري بين اليمنيين الذي تشكل بعد الثورة، وإعادة فسفطتهم إلى "زيود وشوافع"، وقد نجحت هذه العصابات في خلخلة هذا التلاحم الوطني في أحداث أغسطس المشئومة عام 68، حينها، تم تصفية أبناء المناطق الوسطى والغربية من مفاصل الدولة المدنية والعسكرية، بدعوى التمرد والإساءة للدين الاسلامي من "الحركيين الشيوعيين" على حد وصف الكليبتوقراطيين عبدالله الأحمر وحسين المسوري، وهذه الدعاوى لم تكن سوى شماعة لضرب التلاحم الوطني الجمهوري المنبثق عن الثورة السبتمبرية لتهيئة الساحة لعودة الإماميين وهو ما تم في مايو عام 70م.

كان لأحداث أغسطس وقعها المرير على أبناء المحافظات الوسطى والغربية، سيما وقد كانوا المستهدفين فيها، وهو ما أعاد الفسفطة المجتمعية القميئة آنفة الذكر، زيود وشوافع، وكان من عواقبها اندلاع ما سمي بالجبهة الوطنية المسلحة بزعامة جار الله عمر، أحد الضباط الذين تعرضوا للسجن بعد أحداث أغسطس لمدة ثلاث سنوات.
وقد روى في مذكراته تفاصيل نشوء الجبهة وعدّها ردة فعل على أحداث 68 ومصادرة الجمهورية على حد قوله، وكان صريحاً في سرده بالقول إن الرئيس الحمدي كان معهم في حركة القوميين العرب لكنه لم يعتقل، بل استمر في عمله وتدرجه الوظيفي، فيما اعتقل الآخرين في إشارة إلى البُعد المناطقي في عملية التصفية الناجمة عن اقتتال أغسطس الدامي بين الجمهوريين.

بعد أن نجح الكهنوت الإمامي في وضع قدمه على سلم النظام الجمهوري، عمل على تنفيذ خطته المرسومة في ضرب ما تبقى من التلاحم الجمهوري، وقد كان يرى في أبناء المحافظات الوسطى والغربية العقبة في طريق مشروعه العنصري، وكان لابد من إحداث اصطراع بيني بطابع مذهبي مناطقي، وبعد اغتيال الرئيس الحمدي وفشل حركة أكتوبر الناصرية ضد الرئيس علي صالح، وجدت الهاشمية الكهنوتية ضالتها لدق المسمار الأخير في نعش الوحدة المجتمعية الجمهورية.

وكما نعلم فإن الغالبية العظمى من منتسبي الحركات والأحزاب السياسية كانت من المحافظات الوسطى والغربية، وعلى وجه التحديد تعز وإب، لذلك استغل الإماميون المتغلغلين في الأجهزة الأمنية والعسكرية فشل حركة أكتوبر الناصرية لضرب الوطنيين المؤمنين بالثورة وأهدافها وقيمها، تحت يافطة محاربة الانقلابيين، وقد تساوق مع هذا التوجه الكهنوتي الكثير من مشروخي الهوية الوطنية وعلى أعلى مستوى في النظام الحاكم، وما إن نجح السلاليون في تصفية خصومهم وخصوم الحكام الجدد حتى فُتحت لهم الأبواب على مصراعيها.
ومنذ مطلع الثمانينات كان الهاشميون يسرحون ويمرحون في كل مفاصل الجمهورية، وفي الوقت نفسه كان التضييق والاجتثاث السياسي والفصل من الوظائف والمطاردة الأمنية عمل ممنهج يتتبع أبناء المحافظات الوسطى والغربية، ومن يعود لقراءة تلك الحقبة المؤلمة سيجد فظاعات لا حصر لها ولا حدود.

الشاهد أن القوة العسكرية-القبلية التي ووجِهت بها كل التيارات اليمنية المناهضة للتكتل الحاكم المنبثق عن انقلاب نوفمبر ٦٧ وما تناسل عنه وصولاً إلى صعود علي صالح نهاية السبعينات، وكانت قوة ساحقة ماحقة، لم تستخدم في مواجهة التمرد الهاشمي خلال حروب صعدة الستة، وبدت مواجهة الحكومة لها كما لو أنها تمرينات للمليشيات الهاشمية تحضيراً لما حدث عام 2014، لاسيما إذا ما نظرنا للجان الوساطات والضمانات الممنوحة للمتمردين باستثناء مقتل المتورد حسين الحوثي الذي تم دون رضى علي صالح، 
في حين ارتكبت بحق أبناء المناطق الوسطى والغربية فظائع يندى لها الجبين، من السحل في شوارع صنعاء كما حصل لرئيس هيئة الأركان عبدالرقيب عبدالوهاب والدفن للبعض منهم أحياء وإخفاء البعض الآخر دون أن يعلم عنهم أحد شيئاً حتى اليوم أمثال علي مثنى جبران وعبدالعزيز أحمد عون وغيرهما الكثير الكثير.

خلاصة القول، هنالك أخطاء كارثية تسببت في كل ما حدث ويحدث اليوم، ومعالجة تلك الأخطاء ومنع حدوثها مستقبلاً تحتاج إلى شجاعة للإعتراف بها، وليس هنالك أكثر مسئولية وطنية لتصحيحها وسد الشقوق التي نفذت منها الهاشمية العنصرية من حراك الأقيال الوطني وأقياله الأحرار، فالجمهورية التي ضحى من أجلها أقيال سبتمبر وأكتوبر ظُلمت، ويقع على عاتقنا جميعاً استعادتها وتصحيح مسارها الثوري التحرري.


Create Account



Log In Your Account